ومهما كانت أسباب هذا الخفض ونتائجه المرجوة، إلا أنه يأتي أيضاً في سياق ضغوط مكثفة يمارسها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على الاحتياطي ورئيسه، منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، مطلع هذا العام.
فقد دعا الرئيس الأميركي، مراراً، إلى خفض أسعار الفائدة على نحو كبير، موجهاً انتقادات لاذعة لباول، بلغت حدود وصفه بـ«الغبي» ومطالبته بالتنحي، رغم أنّ ولايته قد شارفت على الانتهاء.
فور إعلان قرار تخفيض الفائدة، قال باول إنّ مخاطر تراجع التوظيف ازدادت، على الرغم من ارتفاع التضخم، لكنه أشار إلى أنّ الاحتياطي الفدرالي ملتزم بالحفاظ على استقلاليته، وذلك رداً على ما تمّ تداوله مؤخراً حول احتمال أن يؤثر انضمام أحد مستشاري ترامب إلى مجلس حكام الفدرالي على استقلالية المؤسسة المالية العريقة.
ويبدو أنّ ما كان يؤرق باول أنه لا يريد أن يظهر وكأنه يتلقى إملاءات وأوامر من الرئيس الأميركي وهو يريد حفظ استقلالية الفدرالي، كمؤسسة مهنية مستقلة تأخد قراراتها بناء على مؤشرات مهنية كالتضخم وأوضاع سوق العمل.
خرج الاحتياطي، الأربعاء الماضي، بقرار كان متوقعاً على صعيد الأسواق، رغم أنّ ذلك ليس كلّ ما يريده ترامب، بدليل أنّ العضو الجديد الذي عيّنه الرئيس الأميركي في مجلس الاحتياطي، ستيفن ميران، هو الوحيد الذي صوّت لخفض الفائدة بواقع 50 نقطة أساس، أيّ ضعف ما قرّره الفدرالي فعلياً.
ولكن ماذا لو قرّر الفدرالي خفض الفائدة بواقع 50 نقطة أساس؟
برأي بعض الخبراء، فإنّ مجلس الاحتياطي قد استطاع تجاوز هذه المخاطرة مستنداً إلى المعطيات، إذ كان من الممكن أن يؤدّي خفض الفوائد، بواقع أكبر، إلى إفقاد الاحتياطي الفدرالي الثقة التي توليه إياها الأسواق المالية، ما يعني عملياً فقدان الثقة بالدولار وهي العملة التي تهيمن على الاحتياطيات وعلى التجارة العالمية.
كما أنّ البنوك المركزية في حال وجدت أنّ المؤسسة التي كانت تنظر إليها على أنها مرجعية، على صعيد العالم، قد باتت في مهبّ التدخلات السياسية، فمن شأن ذلك أن يزعزع ثقتها بها وبقراراتها المسيّسة غير الخاضعة للمعايير المهنية، وحتى النظرة إلى الدولار وأدوات الدين الأميركية ستصبح مختلفة عن الواقع الدي كانت عليه في السابق.
الأسواق والاستثمارات
لا شك في أنّ ارتفاع معدلات الفائدة هو العدو الأول للأسواق المالية، وعندما تنحفض معدلات الفائدة يقوم المستثمرون والمودعون بسحب جزء من أموالهم ونقلها إلى ملاذات أكثر خطورة، وهنا نتحدث عن أسواق الأسهم وحتى الاستثمارات والشركات، سواء كانت ناشئة أو كبيرة.
فهذه الشركات ستخلق، بطبيعة الحال، فرص عمل جديدة وتُدخل شريحة من الموظفين إلى سوق العمل ما يؤدي إلى إحداث نوع من النمو الاقتصادي.
إلا أنّ هذه الدورة الاقتصادية ستؤدي، على المديين المتوسط والطويل، إلى ارتفاع التضخم من جديد وبالتالي يضطر البنك المركزي مجدّداً إلى استخدام أدواته ومن بينها معدلات الفائدة.
الذهب والأسهم والعملات
الذهب أصل لا يدرّ عائداً (لا فوائد أو توزيعات أرباح)، وعندما تكون أسعار الفائدة منخفضة يصبح الاحتفاظ بالذهب أكثر جاذبية لأنه لا يخسر مقارنة بالأدوات الأخرى، وعندما تكون الفائدة مرتفعة، يفضّل المستثمرون السندات أو الودائع البنكية التي تمنحهم عائداً مضموناً.
أما بالنسبة إلى الأسهم، فإنّ خفض الفائدة يعزّز شهية المخاطرة في سوق الأسهم، فكلما انخفضت تكلفة الاقتراض، ازدادت ربحية الشركات المثقلة بالديون، ما يدفع المستثمرين إلى ضخ أموال جديدة في أسهمها.
وفي ما يتعلق بالمعادن الأساسية، فإنّ السياسة النقدية التيسيرية تخفض قيمة الدولار وتقلّص تكاليف الاقتراض، ما يجعل المعادن الأساسية أرخص بالعملات الأخرى ويدعم الطلب عليها.
بالإضافة إلى ما سبق، يمنح انخفاض الدولار العملات الأساسية الأخرى مساحة للتعافي، لا سيما اليورو واليوان الصيني.
كما أنّ ارتفاع مستويات السيولة وانخفاض تكلفة الأموال سينعكسان إيجابياً على العملات المشفّرة، وفي مقدّمتها بيتكوين الذي بات يمثل أداة استثمار بديلة ووسيلة للتحوّط، وهو ما يفسّر ارتفاعه عادةً مع هذا النوع من التطوّرات.
هل من مخاطر؟
في المقابل، يشير الخبراء إلى أنه مع خفض الفائدة سيزداد الطلب على السلع والخدمات في الولايات المتحدة وبالتالي سترتفع أسعارها، وبينما يريد المركزي أن يخفض معدلات الفائدة، يُظهر الارتفاع الكبير في الأسعار الحاجة إلى رفع الفائدة، فتصبح هناك معضلة تضخم وركود، في آن معاً، ما سيحتم حينها وقف خفض معدلات الفائدة والذهاب نحو خيارات أكثر تشدّداً.
وكانت صحيفة «غارديان» البريطانية قد سلطت الضوء في تقرير لها، الأسبوع الماضي، على أنّ الاقتصاد الأميركي يعيش «مرحلة مضطربة» تجمع بين ارتفاع الأسعار وتباطؤ نمو الوظائف، في الوقت الذي تواصل فيه أسواق الأسهم تسجيل مستويات قياسية.
وقالت الصحيفة إنّ ذلك الوضع أعاد إلى الواجهة مصطلح «الركود التضخمي»، الذي يجمع بين ضعف النمو الاقتصادي واستمرار التضخم.
وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة لم تدخل بعد في ركود تضخمي كامل، وفق بعض الخبراء، يرى آخرون أنها قد تكون على مقربة من بلوغ ذلك السيناريو.


